حكايتي مع حمادة التخين وشاي التموين
.
كانت قد مضت سنين لم أزر فيها حيي القديم الذي ما زال يحمل ذكرياتي
أمانة في جدرانه، وفي شوارعه وفي كل أركانه، وقررت أن أباغته بالزيارة،
وبمجرد أن وطأت قدمي هناك شعرت بتنميل في الرأس بفعل تدافع الذكريات.
توقفت عند بيتي القديم، في ذلك الحي الشعبي البسيط بكل ما فيه،
بشوارعه، بأهله؛ هناك فقط شعرت بطفولتي، شعرت بها في نسيم الهواء مائل
الملوحة كنسيم البحر الذي يغزو أنفي في العاشرة من صباح كل يوم من أيام
الإجازة الكبيرة –هكذا كنّا نطلق على إجازة الصيف، فبعد انتهاء كوابيس
مدرستي الابتدائية بما فيها من أستاذ عبد الغفار الذي كان يتعمد إهانتي
وضربي أمام الجميع كثمن مستحق أدفعه أنا للحفاظ على هيبته أمام الطلبة،
أخيرا حلت إجازة الصيف علينا ضيفا خفيفا ما يلبث أن يأتي حتى يرحل سريعا.
لا يمكنني أبدا أن أنسى تلك الأيام التي كنت أستيقظ فيها في العاشرة
صباحا –غير مضطر- فيملأ صدري إحساس غامر بالسعادة لأنني لن أضطر إلى تشغيل
سيمفونية البكاء لأمي توسلا لها بإبقائي في المنزل اليوم، والتخلف عن
المدرسة حتى أتمكن من مشاهدة كارتون مازنجر، وكارتون الفواكه، وأليس في
بلاد العجائب، ولن أنسى بالطبع كعبول، ولكنها ورغم حنانها الآسر لم تكن
لتستجب لدموع التماسيح التي كنت أصطنعها على وجنتي، أو حتى عندما كنت
أتلوى مدعيا ألما غير موجود، وكأنه يعتصر أحشائي؛ فكانت تنظر إلي تلك
النظرة الحاسمة التي لا تخلو أبدا من نصف ابتسامة، وتواصل وضعها زيي
المدرسي –بنطلون رمادي وقميص أزرق كاروهات- على جسدي حتى تنتهي منّي
لتسلمني ليد أخي الذي يقودني إلى مدرستي حانقاً علي لأنني سبب في معايرة
أصدقائه اليومية له، لأنه لا يذهب المدرسة بصحبتهم ويضطر إلى لعب دور
الدادة معي.
وفي أيام الإجازة كانت أكبر مشكلة تواجهني هي أختي، نعم أختي فقد كانت
في هذا الوقت في الصف الثاني الإعدادي ويغمرها كسائر الفتيات ذلك الإحساس
بالقهر لعدم قدرتها على الذهاب والمجيء بحرية كاملة حتى في أيام الإجازة،
وعليه كانت تنفس هذا القهر فيّ أنا، مستغلة كلمة صغيرة تقولها أمي لها قبل
أن تغادر للعمل: متخليش عمرو ينزل من غير ما يفطر، ولكنها كانت ترفض أن
تطلق سراحي قبل أن تعود أمي في الثالثة عصرا، ورغم كل محاولاتي المستميتة
كي أكتسب رضاءها إلا أنها أبدا لم تكن تلين.
واصلت السير حتى قابلت صاحب محل البيض أسفل منزلنا والذي كان يترصد كل
من يدخل أو يبرح المنزل بعينين ثاقبتين تفرز كل شيء فيك من الكعبين حتى
الحاجبين بمبسم الشيشة الذي لا يفارق شفتيه لدرجة جعلتني أتخيله مولودا به
–هكذا كنت أعتقد وأنا طفل-، فعبرته مرورا بعم "أنس" صاحب محل الطعمية
المجاور للمنزل، فلا يمكنني أن أنسى ذاك الرجل الرائع الودود البشوش؛ فمن
الصعب على رجل في منتصف العقد الأربعيني -على الأقل- أن يكتسب صداقة طفل
في مثل عمري في وقتها، ولكنه قد نجح في ذلك ولم يكن يكف عن ممازحتي في كل
مرة أبتاع منه مستلزمات الفطور –وكمان كان بيتوصى بي بالفلفل من غير ما
أقوله عشان عارف إني بحبه-.
أما عم عادل فقد كان بالنسبة لي بابا نويل أحلامي.. أينعم ولا تتعجب
فعم عادل كان صاحب محل لبيع حلوى الأطفال المغلفة بمختلف أنواعها، وكان
لديه مساحة واسعة أمام محله يستغلها في عرض أكثر من 200 صنف من هذه
الحلوى، كم أثرت عيني هذه الفرشة في كل مرة تلتقي عيناي وإياها، والمصروف
بالكاد يعطي صنفين أو ثلاثة، كم حلمت في كل مرة أعبر الطريق مرورا بعم
عادل أن يقبلني أعمل لديه صبيا بدون مقابل سوى أن آكل ما يحلو لي من هذه
الحلوى، ولكن سرعان ما تصطدم أحلامي مع الواقع، وهو أبي الذي لا أتجرأ أن
أطرح عليه ولو مجرد الفكرة، فأنا لا أحتمل نظرة غضب منه –وهو بالمناسبة لم
يكن يضربني-.
وهنا في هذا الشارع كان لي صديق اسمه "حمادة" –ولا تستعجب أنني أقول
صديق- اسمه "حمادة" ولكنه كان دائما ما يمارس دور الزعامة مستغلا تلك
الزيادات الدهنية المقترنة ببطنه وصدره كوسيلة للسطوة علينا، فالجميع كان
يسعى لكسب رضاه وعدم إشعال فتيل غضبه، ومن يخطئ ويفعل فيكتفي حمادة
بالجلوس عليه فقط حتى يعود إلى صوابه، ولكنني ولسوء حظي لم أكن أرتاح لمثل
هذه الزعامة المهينة فكنت أتعمد تجنب المواقف التي يظهر فيها رضوخي إلى
منطق القوة الذي حتما يرجح كرش حمادة على جسمي النحيل –دا وقتها يعني- وإذ
به في مرة من المرات اضطرني إلى أن أصل معه لنقطة المواجهة.
كنت في طريقي لابتياع "باكو شاي" كما طلبت مني والدتي.. وبعدما قضيت
المهمة وأنا في طريق العودة صادفني "حمادة" فسألني عما بيدي فأخبرته في
حالة ارتياب لأن ما في يدي واضح للعيان وكنت أشعر أن وراء سؤاله سببا ما،
وقد صابت ظنوني حيث امتدت يد حمادة في حركة خاطفة كي يأخذ "باكو الشاي"
ولكنها أفلتت فركضت بعيدا عنه، فركض ورائي فاستشاط غضبي وتناولت حجرا
مرتكنا على أحد جوانب الحائط متوسطا في وزنه وسددته في رشاقة أحسد عليها
إلى وجهه فأصاب شفته السفلى؛ فأخذت الدماء تنفجر منها في هلع سرعان ما
انتقل إلي، فهربت إلى بيتي وأخبرت والدي بما حدث فغاب عني اليوم بطوله
وعاد كي يخبرني أن أهل حمادة أبلغوا البوليس ليبحث عني، وبقيت أسبوعا
كاملا مختبئا في الغسالة حتى لا تجدني الشرطة، إلى أن جاءني والدي في
اليوم السابع مبتسما طالبا مني الخروج بعد أن أكد لي زيف قصة البوليس،
وأنه ليس هناك بوليس ولا يحزنون وأن أهل حمادة تصالحوا مع أبي.
وفجأة خرجت من الماضي إلى الحاضر عندما ربت شخص لا أعرفه على ظهري سائلا إياي:
يا أستاذ حضرتك تعرف حد هنا، فأجبته بحزن: كنت أعرف.. زمان
.
كانت قد مضت سنين لم أزر فيها حيي القديم الذي ما زال يحمل ذكرياتي
أمانة في جدرانه، وفي شوارعه وفي كل أركانه، وقررت أن أباغته بالزيارة،
وبمجرد أن وطأت قدمي هناك شعرت بتنميل في الرأس بفعل تدافع الذكريات.
توقفت عند بيتي القديم، في ذلك الحي الشعبي البسيط بكل ما فيه،
بشوارعه، بأهله؛ هناك فقط شعرت بطفولتي، شعرت بها في نسيم الهواء مائل
الملوحة كنسيم البحر الذي يغزو أنفي في العاشرة من صباح كل يوم من أيام
الإجازة الكبيرة –هكذا كنّا نطلق على إجازة الصيف، فبعد انتهاء كوابيس
مدرستي الابتدائية بما فيها من أستاذ عبد الغفار الذي كان يتعمد إهانتي
وضربي أمام الجميع كثمن مستحق أدفعه أنا للحفاظ على هيبته أمام الطلبة،
أخيرا حلت إجازة الصيف علينا ضيفا خفيفا ما يلبث أن يأتي حتى يرحل سريعا.
لا يمكنني أبدا أن أنسى تلك الأيام التي كنت أستيقظ فيها في العاشرة
صباحا –غير مضطر- فيملأ صدري إحساس غامر بالسعادة لأنني لن أضطر إلى تشغيل
سيمفونية البكاء لأمي توسلا لها بإبقائي في المنزل اليوم، والتخلف عن
المدرسة حتى أتمكن من مشاهدة كارتون مازنجر، وكارتون الفواكه، وأليس في
بلاد العجائب، ولن أنسى بالطبع كعبول، ولكنها ورغم حنانها الآسر لم تكن
لتستجب لدموع التماسيح التي كنت أصطنعها على وجنتي، أو حتى عندما كنت
أتلوى مدعيا ألما غير موجود، وكأنه يعتصر أحشائي؛ فكانت تنظر إلي تلك
النظرة الحاسمة التي لا تخلو أبدا من نصف ابتسامة، وتواصل وضعها زيي
المدرسي –بنطلون رمادي وقميص أزرق كاروهات- على جسدي حتى تنتهي منّي
لتسلمني ليد أخي الذي يقودني إلى مدرستي حانقاً علي لأنني سبب في معايرة
أصدقائه اليومية له، لأنه لا يذهب المدرسة بصحبتهم ويضطر إلى لعب دور
الدادة معي.
وفي أيام الإجازة كانت أكبر مشكلة تواجهني هي أختي، نعم أختي فقد كانت
في هذا الوقت في الصف الثاني الإعدادي ويغمرها كسائر الفتيات ذلك الإحساس
بالقهر لعدم قدرتها على الذهاب والمجيء بحرية كاملة حتى في أيام الإجازة،
وعليه كانت تنفس هذا القهر فيّ أنا، مستغلة كلمة صغيرة تقولها أمي لها قبل
أن تغادر للعمل: متخليش عمرو ينزل من غير ما يفطر، ولكنها كانت ترفض أن
تطلق سراحي قبل أن تعود أمي في الثالثة عصرا، ورغم كل محاولاتي المستميتة
كي أكتسب رضاءها إلا أنها أبدا لم تكن تلين.
واصلت السير حتى قابلت صاحب محل البيض أسفل منزلنا والذي كان يترصد كل
من يدخل أو يبرح المنزل بعينين ثاقبتين تفرز كل شيء فيك من الكعبين حتى
الحاجبين بمبسم الشيشة الذي لا يفارق شفتيه لدرجة جعلتني أتخيله مولودا به
–هكذا كنت أعتقد وأنا طفل-، فعبرته مرورا بعم "أنس" صاحب محل الطعمية
المجاور للمنزل، فلا يمكنني أن أنسى ذاك الرجل الرائع الودود البشوش؛ فمن
الصعب على رجل في منتصف العقد الأربعيني -على الأقل- أن يكتسب صداقة طفل
في مثل عمري في وقتها، ولكنه قد نجح في ذلك ولم يكن يكف عن ممازحتي في كل
مرة أبتاع منه مستلزمات الفطور –وكمان كان بيتوصى بي بالفلفل من غير ما
أقوله عشان عارف إني بحبه-.
أما عم عادل فقد كان بالنسبة لي بابا نويل أحلامي.. أينعم ولا تتعجب
فعم عادل كان صاحب محل لبيع حلوى الأطفال المغلفة بمختلف أنواعها، وكان
لديه مساحة واسعة أمام محله يستغلها في عرض أكثر من 200 صنف من هذه
الحلوى، كم أثرت عيني هذه الفرشة في كل مرة تلتقي عيناي وإياها، والمصروف
بالكاد يعطي صنفين أو ثلاثة، كم حلمت في كل مرة أعبر الطريق مرورا بعم
عادل أن يقبلني أعمل لديه صبيا بدون مقابل سوى أن آكل ما يحلو لي من هذه
الحلوى، ولكن سرعان ما تصطدم أحلامي مع الواقع، وهو أبي الذي لا أتجرأ أن
أطرح عليه ولو مجرد الفكرة، فأنا لا أحتمل نظرة غضب منه –وهو بالمناسبة لم
يكن يضربني-.
وهنا في هذا الشارع كان لي صديق اسمه "حمادة" –ولا تستعجب أنني أقول
صديق- اسمه "حمادة" ولكنه كان دائما ما يمارس دور الزعامة مستغلا تلك
الزيادات الدهنية المقترنة ببطنه وصدره كوسيلة للسطوة علينا، فالجميع كان
يسعى لكسب رضاه وعدم إشعال فتيل غضبه، ومن يخطئ ويفعل فيكتفي حمادة
بالجلوس عليه فقط حتى يعود إلى صوابه، ولكنني ولسوء حظي لم أكن أرتاح لمثل
هذه الزعامة المهينة فكنت أتعمد تجنب المواقف التي يظهر فيها رضوخي إلى
منطق القوة الذي حتما يرجح كرش حمادة على جسمي النحيل –دا وقتها يعني- وإذ
به في مرة من المرات اضطرني إلى أن أصل معه لنقطة المواجهة.
كنت في طريقي لابتياع "باكو شاي" كما طلبت مني والدتي.. وبعدما قضيت
المهمة وأنا في طريق العودة صادفني "حمادة" فسألني عما بيدي فأخبرته في
حالة ارتياب لأن ما في يدي واضح للعيان وكنت أشعر أن وراء سؤاله سببا ما،
وقد صابت ظنوني حيث امتدت يد حمادة في حركة خاطفة كي يأخذ "باكو الشاي"
ولكنها أفلتت فركضت بعيدا عنه، فركض ورائي فاستشاط غضبي وتناولت حجرا
مرتكنا على أحد جوانب الحائط متوسطا في وزنه وسددته في رشاقة أحسد عليها
إلى وجهه فأصاب شفته السفلى؛ فأخذت الدماء تنفجر منها في هلع سرعان ما
انتقل إلي، فهربت إلى بيتي وأخبرت والدي بما حدث فغاب عني اليوم بطوله
وعاد كي يخبرني أن أهل حمادة أبلغوا البوليس ليبحث عني، وبقيت أسبوعا
كاملا مختبئا في الغسالة حتى لا تجدني الشرطة، إلى أن جاءني والدي في
اليوم السابع مبتسما طالبا مني الخروج بعد أن أكد لي زيف قصة البوليس،
وأنه ليس هناك بوليس ولا يحزنون وأن أهل حمادة تصالحوا مع أبي.
وفجأة خرجت من الماضي إلى الحاضر عندما ربت شخص لا أعرفه على ظهري سائلا إياي:
يا أستاذ حضرتك تعرف حد هنا، فأجبته بحزن: كنت أعرف.. زمان